في عالم الشركات اليوم، تحولت صورة “الموظف المخلص” إلى رمز غريب من الالتزام الزائف. صار يُقاس الإخلاص بعدد الساعات التي يقضيها الإنسان داخل المكتب، لا بنوعية النتائج التي يقدّمها. وكأن الجلوس الطويل أمام الشاشة دليل على الولاء، بينما الإنتاج الحقيقي أصبح تفصيلًا ثانويًا في الحكاية. صرنا نعيش ثقافة تُمجّد التعب لا الإنجاز، وتُكافئ من يبقى متعبًا أكثر ممن يكون فعّالًا.
في كثير من المؤسسات، تلمح هذا المشهد يوميًا: موظف يغادر المكتب بعد العاشرة ليلًا، يودّعه المدير بابتسامة إعجاب، وينال ثناءً في الاجتماع القادم باعتباره “نموذج الالتزام”. لكن أحدًا لا يسأل: ماذا أنجز؟ كم أضاف للشركة؟ ما القيمة الفعلية التي خرجت من كل تلك الساعات؟ بينما في الطرف الآخر، تجد موظفًا آخر ينجز أعماله خلال ساعات محدودة، بكفاءة عالية، ويغادر في وقت الدوام الرسمي، لكنه يُنظر إليه على أنه “أقل التزامًا”، أو “مش جدي”، فقط لأنه لم يُرهق نفسه.
هذه الثقافة ليست بريئة. إنها انعكاس مباشر لموروث إداري قديم، يرى أن “العمل الجاد” يعني “البقاء الطويل في العمل”. فكرة متجذّرة منذ الثورة الصناعية، حين كانت الإنتاجية تقاس بالزمن لا بالإبداع. كان العامل في المصنع يقبض أجره بناءً على عدد الساعات التي يقضيها بجانب الآلة، لا على الأفكار التي يقدّمها. ومع الأسف، ما زال كثير من المدراء يعيشون في ذلك العصر، حتى في زمن الذكاء الاصطناعي والعمل المرن.
عبادة الوقت بدل عبادة القيمة
من الأخطاء القاتلة في ثقافة الشركات العربية والعالمية على حد سواء، أن الإدارة تنشغل بعدّ الساعات أكثر من مراقبة المخرجات. أصبح هناك نوع من “العبادة المؤسسية للوقت”. الموظف الذي يصل مبكرًا ويغادر متأخرًا يُعتبر “قدوة”، حتى وإن كان يقضي نصف وقته على هاتفه أو يتجول بين المكاتب في أحاديث لا تنتهي. في المقابل، الموظف الذي ينظم وقته ويعمل بذكاء يُتهم بأنه “يبحث عن الراحة”.
المفارقة أن هذا النمط من التفكير لا ينتج إلا بيئة مضيّعة للجهد والطاقة. الموظف الذكي يشعر بالغبن، فيقل حماسه. والمدير يستمر في مكافأة السلوكيات الخطأ، فيزداد التدهور. النتيجة؟ ساعات أطول، وإنتاج أقل، وشعور عام بالإرهاق وانعدام المعنى.
التجربة الشخصية التي تفضح النظام
في إحدى الشركات، كان هناك زميل دائم الحضور من التاسعة صباحًا حتى العاشرة مساءً. الجميع يصفق له في الاجتماعات، والمدير يتحدث عنه كأنه مثال للإخلاص. لكن حين تم تحليل نتائج الأداء، كانت المفاجأة صادمة: إنتاجيته لا تتجاوز نصف إنتاجية زميل آخر يعمل ثماني ساعات فقط. الفرق أن الثاني يعرف كيف يدير وقته، وكيف يركز جهده في المهام الأساسية بدل الغرق في التفاصيل الجانبية. ومع ذلك، ظل الأول هو “البطل الإعلامي”، والثاني مجرد “موظف عادي”.
هذا النوع من التناقض يولّد ثقافة سامة داخل بيئة العمل. يصبح معيار النجاح هو “كم بقيت”، لا “ماذا أنجزت”. والموظفون يتعلمون بسرعة كيف يلعبون اللعبة: ابقَ أطول، حتى لو لم تفعل شيئًا مهمًا، لأن البقاء وحده يُكسبك الاحترام. وهكذا تتحول الشركة إلى مسرح كبير من التمثيل الجماعي.
من أين جاءت هذه الثقافة؟
إذا عدنا جذورها، نجد أن فكرة “الدوام الطويل” لها تاريخ نفسي واجتماعي. في المجتمعات التي تقدّس العمل، يصبح التعب نوعًا من الشرف. في اليابان مثلاً، هناك مصطلح “كاروشي” (過労死) ويعني الموت من الإفراط في العمل. يُعتبر الموظف الذي ينهك نفسه حتى الموت بطلاً قوميًا في بعض القصص القديمة! أما في عالمنا العربي، فقد اختلطت الفكرة بمفهوم “الرجولة” و”الجدية” و”التحمّل”. من يبقى أكثر هو “الأقوى”. ومن يغادر في الموعد المحدد يُتهم بالتقصير.
لكن الواقع العملي في الشركات الحديثة يثبت أن هذا التفكير لم يعد صالحًا. اليوم، الإنتاجية ليست بعدد الساعات، بل بذكاء توزيعها. التكنولوجيا جعلت من الممكن إنجاز مهام كانت تستغرق أيامًا في ساعات معدودة، لكن كثير من المؤسسات ما زالت تُصرّ على قياس الجهد بمعيار الزمن، لا بمعيار القيمة.
إدارة الوقت أم إدارة الطاقة؟
هنا نصل إلى المفهوم الأعمق: النجاح في العمل لا يعتمد على “كم من الوقت تعمل”، بل “كيف توزّع طاقتك خلال الوقت المتاح”. الإنسان ليس آلة يمكنها العمل بوتيرة ثابتة طوال اليوم. الدماغ يحتاج فترات راحة ليبقى في أعلى أداءه. ولهذا، الموظف الذي يعمل ثماني ساعات مركّزة ينتج أكثر بكثير من شخص يقضي 12 ساعة بين مهام متقطعة، مكالمات، قهوة، وتصفح.
العمل الذكي يعني معرفة متى تعمل ومتى تتوقف. الشركات الناجحة في وادي السيليكون، مثل Google وBasecamp وAtlassian، أدركت هذه الحقيقة منذ سنوات. هناك فرق بين “الحضور الجسدي” و”الحضور الذهني”. الشركات الذكية تقيس الثاني، لا الأول.
عندما يصبح الكسل ذكاءً
في بيئات معينة، يُعتبر الموظف الذي يبحث عن طرق لتقليل الجهد “كسولاً”، بينما في بيئات أخرى يُعتبر “مبدعًا”. المهندس الذي يكتب كودًا ذكيًا لتوفير خمس ساعات من العمل اليومي، يُعد عبقريًا في شركات التكنولوجيا، لكنه في شركاتنا ربما يُتّهم بأنه “بيتهرّب من الشغل”.
القضية هنا ليست الكسل الحقيقي، بل تعريف الكفاءة. الكفاءة هي إنجاز أكثر بأقل جهد ممكن. هي استخدام الذكاء بدل القوة. عندما نكافئ من يعمل أكثر بدل من ينجز أكثر، نقتل روح الابتكار.
ثقافة “أنا مشغول دايمًا”
في بعض المكاتب، أصبحت عبارة “ما عندي وقت” وسام شرف. كأن الانشغال المستمر هو دليل أهمية. تجد الموظف يتحدث طوال الوقت عن الاجتماعات، المواعيد، الضغط، المشاريع، وكأنها دلالة على قيمته. لكن هذا الانشغال غالبًا يخفي فوضى في التنظيم، أو عجزًا عن قول “لا”.
الباحث “تيم كريدر” كتب في مقال شهير في نيويورك تايمز بعنوان The Busy Trap أن الناس اليوم يستخدمون كلمة “مشغول” كدرعٍ لحماية أنفسهم من مواجهة حياتهم الفارغة. الانشغال الزائف يعطيهم شعورًا بالجدوى. وهذا تمامًا ما يحدث في الشركات: نخلق زحمة مصطنعة لنشعر أننا نعمل، بينما الجوهر مفقود.
المدير الذي يحب المشهد لا النتيجة
كثير من المدراء يحبون “المنظر”. يريد أن يرى الموظفين في مكاتبهم. أصوات الطابعات، الاجتماعات، الشاشات المضيئة، كلها تمنحه إحساس السيطرة. لكن هذه المشاهد قد تكون خادعة. فالموظف المبدع لا يُقاس بحضوره بل بأثره.
في المقابل، المدير الناضج هو من يسأل السؤال الصحيح: “ما الذي تحقق اليوم؟” وليس “من اللي ظل لآخر الليل؟”. عندما يتحول السؤال إلى الأثر، تتغير الثقافة كلها. يبدأ الموظفون بالبحث عن القيمة بدل الوقت، عن الإنجاز بدل الظهور.
كيف تتشكل صورة البطل الزائف؟
في ثقافة الشركات، هناك دائمًا أبطال يتم صناعتهم إعلاميًا داخل الجدران. الموظف الذي يبقى متأخرًا يظهر بصورة “المضحّي”، وكأن الشركة مشروع إنقاذ وطني. يتحدث عنه المديرون في الاجتماعات، يمدحونه في الإيميلات، فيصبح نموذجًا يقلّده الآخرون.
لكن خلف الكواليس، تكون الحقيقة مختلفة. كثير من هؤلاء “الأبطال” يضيّعون وقتهم في تفاصيل لا لزوم لها، أو يتعمّدون تأجيل المهام حتى يبدوا منشغلين. بعضهم يتعامل مع الوقت كوسيلة لبناء صورة لا لإنجاز مهمة. والأنكى من ذلك أن المديرين يعلمون أحيانًا بذلك، لكنهم يفضلون الصمت، لأنهم أنفسهم أسرى لنفس اللعبة.
الموظف الفعّال في وجه المنظومة
الإنسان الذي يعمل بذكاء غالبًا ما يجد نفسه في صدام مع هذه الثقافة. لأنه لا يقدّس الوقت، بل يحترمه. يعرف متى يبدأ ومتى ينتهي. يرفض فكرة أن “الإرهاق بطولة”. يفضل أن ينجز في 6 ساعات ما يعجز غيره عن فعله في 12.
لكن النظام لا يحب هذه النماذج. لأنه لا يمكن التحكم بها. الموظف الفعّال يحرج الكسالى، ويكسر القواعد غير المكتوبة. ولهذا كثيرًا ما يُساء فهمه أو يُقلّل من شأنه. ومع مرور الوقت، يبدأ في الانسحاب الصامت أو الانتقال إلى بيئة تقدر الكفاءة الحقيقية.
عندما تتحول الكفاءة إلى عقوبة
أخطر ما في الموضوع أن الشركات أحيانًا “تعاقب” الكفاءة دون أن تدري. الموظف الذي ينهي مهامه بسرعة يُكلّف بمزيد من العمل. بينما الذي يتباطأ يُكافأ براحة غير معلنة. ومع الوقت، يتعلم الذكي أن يتظاهر بالبطء حتى لا يُستغل. وهكذا، تقتل الشركة روح المبادرة في داخلها بيدها.
في دراسة أجرتها جامعة ستانفورد، تبين أن الإنتاجية تبدأ بالانخفاض الحاد بعد 50 ساعة عمل أسبوعيًا، وتنهار تقريبًا بعد 55 ساعة. أي أن الموظف الذي يعمل 70 ساعة لا ينجز أكثر ممن يعمل 55. بل إن احتمال الخطأ والإجهاد النفسي يزيد بشكل كبير. ومع ذلك، ما زال كثير من المدراء يقيسون الجهد بالزمن.
العامل النفسي: لماذا نحب التعب؟
هناك سبب نفسي عميق وراء تمجيدنا للتعب. الإنسان يشعر بالذنب حين يرتاح. نربّى منذ الصغر على أن الراحة ترف، وأن التعب فخر. فنكبر ونحن نخلط بين “الجهد” و”القيمة الذاتية”. نعتقد أن من لا يتعب لا يستحق النجاح. وهذا التفكير ينتقل إلى بيئة العمل.
لكن الحقيقة أن الراحة ليست عدو العمل، بل شرطه. العقل المرهق لا يبدع. والبدن المتعب لا يستمر. العمل المستمر دون توازن ينتج أجسادًا منهكة وعقولًا خاوية. وهنا تظهر ظاهرة “الاحتراق الوظيفي” التي أصبحت اليوم وباء العصر المهني.
الاحتراق الوظيفي: موت ببطء
الاحتراق الوظيفي ليس مجرد تعب عادي، بل حالة من الانفصال النفسي عن العمل. يفقد الموظف الشغف، ينجز آليًا، يشعر أن جهده لا يُقدّر، ويبدأ بالعد التنازلي لمغادرة الشركة. السبب؟ ثقافة تستهلكه دون أن تمنحه التقدير أو التوازن.
الشركات التي تفرض دوامًا طويلًا وتعتبره معيارًا للجدية، تزرع بذور الاحتراق في موظفيها. بينما المؤسسات التي تركز على النتائج وتمنح الثقة، تحافظ على طاقة موظفيها لفترات أطول. الفرق بينهما هو الفهم الحقيقي لمعنى “الإنتاجية”.
ماذا تعني الإنتاجية فعلًا؟
الإنتاجية ليست في أن تعمل أكثر، بل أن تحقق نتائج ملموسة في أقل وقت ممكن. هي مزيج من التركيز، التخطيط، والمهارة. الموظف المنتج لا يُقاس بعدد الملفات التي فتحها، بل بكمية الأثر الذي تركه. قد ينجز في يوم ما يعجز آخر عن إنجازه في أسبوع.
ولذلك، على الشركات أن تغيّر مقاييسها. لا تسأل “كم ساعة عملت؟” بل “ماذا حققت خلال الساعات التي عملت بها؟”. حين يصبح الإنجاز هو المعيار، تختفي المسرحيات.
أمثلة من العالم
شركات مثل “Basecamp” و“Buffer” و“37signals” خفّضت ساعات العمل الأسبوعية إلى 32 ساعة فقط، فزادت الإنتاجية بنسبة تفوق 40%. في تجربة أجرتها مايكروسوفت اليابان عام 2019، تم تقليص الدوام إلى 4 أيام أسبوعيًا، وكانت النتيجة زيادة الإنتاجية بنسبة 40% وانخفاض استهلاك الكهرباء والطباعة بنسبة 25%.
النتيجة واضحة: الراحة والذكاء في توزيع الجهد يؤديان إلى نتائج أفضل. بينما الضغط المستمر يولّد أخطاء أكثر وتكلفة بشرية باهظة.
كيف نغيّر هذه الثقافة؟
التغيير يبدأ من الإدارة. المدير هو من يضع المعايير، وهو من يخلق المناخ الذي يحدد ما يُكافأ عليه الناس. إذا كان يكافئ الحضور الطويل، فسيبقى الجميع حتى منتصف الليل. وإذا كافأ النتائج، فسيتسابق الجميع على الكفاءة.
كذلك يجب أن تتغيّر لغة الشركة الداخلية. بدلاً من قول “فلان بقي لآخر الليل”، يجب أن نقول “فلان أنجز مشروعه قبل الموعد المحدد”. الكلمات تصنع الثقافة، والثقافة تصنع السلوك.
الذكاء العاطفي في القيادة
القائد الحقيقي لا يقيس الجهد بالساعات، بل بالنتائج والعلاقات. يعرف أن الإنسان ليس آلة. يقرأ التعب في العيون قبل التقارير. يمنح الثقة بدل المراقبة. يخلق بيئة يشعر فيها الموظف أن حياته متوازنة. حينها فقط، يصبح الإنجاز نابعًا من حب العمل لا من الخوف من العقوبة.
المستقبل لمن يعمل بذكاء
العالم يتجه نحو المرونة. العمل عن بُعد، الساعات المرنة، والقياس بالأثر أصبحت القاعدة الجديدة. الشركات التي ما زالت تحاسب موظفيها على “الوقت” ستجد نفسها خارج المنافسة. لأن الجيل الجديد من الموظفين لا يريد أن يعيش ليموت في المكتب. يريد أن يعيش ليبدع.
العمل الذكي هو مبدأ المستقبل: أن تفكر أكثر وتعمل أقل، لكن بإنتاج مضاعف. أن توازن بين حياتك وشغفك. أن تقيس يومك بما حققته، لا بما استهلكته من وقت.
القيمة الحقيقية
في نهاية اليوم، لن يتذكر أحد كم ساعة جلست أمام الشاشة. سيتذكرون فقط ماذا أنجزت. لأن القيمة لا تُقاس بعدد الساعات، بل بما تركته وراءك.
قد تبقى في المكتب 12 ساعة دون أن تغيّر شيئًا، وقد تكتب سطرًا واحدًا في ساعة يغيّر مستقبل مشروع بأكمله. والفرق بين الاثنين هو جوهر السؤال:
هل تعمل لتبدو منشغلًا، أم لتكون مؤثرًا؟
الشركات الذكية اختارت الإجابة منذ زمن:
القيمة ليست بعدد الساعات… القيمة في ما أنجزته خلال هذه الساعات.
المراجع:
-
Harvard Business Review – “The Research Is Clear: Long Hours Backfire for People and for Companies.”
-
Stanford University Study on Productivity and Working Hours.