في عالمنا اليوم، صارت الألقاب الوظيفية تُعامل وكأنها شهادات على قيمة الإنسان. كلمة "دكتور"، "مهندس"، "مدير"، "رئيس قسم"… كلها ألقاب اكتسبت بريقاً اجتماعياً يوحي بالتفوّق، وكأنها تختصر كل معاني النجاح والتميّز. لكن الحقيقة المؤلمة؟ أن اللقب — مهما لمع — ما بيصنع قيمة الإنسان ولا يحدد تميّزه الحقيقي، لأنه في النهاية مجرد عنوان. عنوان ممكن يكون مكتوب بخط ذهبي على بطاقة، لكن فارغ تماماً من المعنى الإنساني.
كم طبيب فقدنا فيه الإنسانية رغم علمه؟
كم مهندس عجز عن حل أبسط مشكلة لأنه فقد الحسّ الإبداعي؟
وكم مدير امتلأ بالكبرياء الفارغ، وهو من الداخل خاوٍ من المعرفة والفهم؟
وهنا لا الحديث عن مهنة معينة، بل عن ظاهرة اجتماعية خطيرة: اختزال قيمة الإنسان في المسمّى الوظيفي، لا في الفعل، لا في التأثير، لا في الأخلاق.
اللقب لا يساوي القيمة
من الطبيعي أن يكون للطبيب مكانة، وللمهندس تقدير، وللمدير احترام. لكن غير الطبيعي أن تتحول الألقاب إلى مقياس قيمة. لما يُقاس الاحترام بحجم المسمّى وليس بمدى الإسهام، يصير المجتمع مقلوبًا. الناس تتعامل مع العنوان قبل أن تتعامل مع العقل أو الروح، والمظاهر تطغى على الجوهر.
نشوف شاباً بسيطاً يشتغل في التوصيل يومياً، يواجه ضغط الزبائن، الحرّ، والبرد، لكنه يحافظ على أخلاقه وابتسامته — ومع ذلك لا يُرى، لأنه ما عنده لقب "مُبهر".
وفي المقابل، شخص يعلو لقبه على لافتة بمدخل الشركة، لكنّه يصرخ على موظفيه، ويعاملهم بتعالي، ويعتبر نفسه محور الكون. ومع ذلك، يُقدَّم في المناسبات بـ"الأستاذ فلان" ويُصفّق له احترامًا.
الفارق مش في المسمّى… الفارق في الجوهر.
كيف صار اللقب واجهة تسويقية؟
المشكلة مش بس اجتماعية. حتى في عالم التسويق والإعلانات — اللي المفروض يكون الأقرب لفهم الناس — صرنا نشوف تركيز مَرَضي على المسمّيات بدل الإنسان.
الإعلان الأخير لأحد البنوك العربية مثال واضح. إعلان متكرر يقول: "أنت طبيب، أنت طبيب، أنت طبيب"، كأنه ما في مهنة غير الطب، وكأنه التحديات اللي بيعيشها الطبيب تختلف عن باقي البشر!
الغريب إن السيناريو اللي قدموه في الإعلان — الإرهاق، السعي، القلق، الالتزامات المالية، الحاجة إلى راحة بال — كل هذا يعيشه كل إنسان بيشتغل! من سائق التوصيل إلى موظف الكول سنتر، من المصور الحر إلى المعلمة، من المبرمج إلى الحرفي.
بس لأن الطبيب "لقبه راقي"، صار محور الحملة. وكأن البنك بيقول بطريقة غير مباشرة: الباقي أقل أهمية، أو ما بيستحقوا نفس الرسالة بنفس الاحترام.
وهون بيت القصيد:
اللي صار مش تسويق ذكي، بل تسويق طبقي.
التسويق الطبقي: مرض العصر الإعلاني
كثير من الحملات التسويقية اليوم تبني نفسها على أساس "الهيبة"، لا على أساس "الاحتياج".
يعني بدل ما يسأل المسوّق: "شو اللي بيخلي الزبون يقلق؟ شو اللي بيحتاجه فعلاً؟"،
بصير يسأل: "مين الفئة اللي بتعطيني مظهر فخم؟ مين اللقب اللي بيرفع صورة البراند؟"
بهالطريقة، الإعلان ما بعود يخاطب الإنسان، بل يخاطب الطبقة.
يُقال: "منتج للأطباء"، "بطاقة لرجال الأعمال"، "عرض للمديرين التنفيذيين"، وكأن بقية الناس أقل استحقاقاً.
لكن الحقيقة، التسويق اللي ينجح مش هو اللي يغازل البرستيج، بل اللي يلمس الإنسان من جوّاه.
سائق التوصيل اللي بيشتغل من الصبح للمساء عشان يسد قسط الموتوسيكل، عنده نفس القلق اللي عند الطبيب اللي عنده قسط العيادة.
الموظف الصغير اللي بيدفع إيجار بيت كل شهر بنفس المعاناة اللي بعيشها المهندس اللي بيدفع قرض شقة.
كلهم بشر.
كلهم بيعيشوا في دائرة احتياجات مشتركة: أمان مالي، راحة، تقدير، شعور بالاستقرار.
لما يصير الإعلان موجّه للقب وليس للإنسان
في اللحظة اللي بيصير فيها الإعلان يقول: "أنت طبيب"، بدل ما يقول: "أنت إنسان تتعب وتسعى وتحتاج استقرار"،
هون بنفقد المعنى الحقيقي للتسويق.
المُعلن وقتها مش عم يخاطب المشاعر، بل يخاطب الغرور.
مش عم يبني علاقة مع الجمهور، بل عم يغازل فئة محدودة على حساب فئات أوسع.
وهيك بيتحوّل التسويق من فن التأثير إلى فن الإقصاء.
من وسيلة تواصل إلى أداة تفرقة.
القيم الحقيقية خلف التسويق
الفكرة الأساسية في التسويق الناجح مش إنه يعرف المسمّى، بل إنه يفهم الإنسان.
التسويق الذكي ما بيشوف الجمهور كـ"شرائح اجتماعية"، بل كـ"مشاعر بشرية".
يعني بدل ما تبني حملة بعنوان "بطاقة الطبيب"، ابني حملة بعنوان "بطاقة تساعدك توازن بين شغلك وحياتك".
بدل ما تقول "عرض خاص للمديرين"، قل "حلول مالية تساعدك تطور مشروعك وتوسع طموحك".
هون الفارق: في الأولى أنت تبيع صفة، في الثانية أنت تخاطب إنسان.
أمثلة من الواقع
خذ مثلاً حملات شركات التكنولوجيا مثل Apple.
هل شفت إعلاناً يقول: "للرؤساء التنفيذيين فقط"؟
أبداً.
لكن لما بيقولوا "Think Different"، الكل بيحس إنهم بيكلموه شخصيًا، سواء كان مصورًا أو موسيقيًا أو مهندسًا أو طبيبًا.
الرسالة ما كانت للقب، كانت للروح.
ونفس الشيء مع Nike لما تقول "Just Do It" — ما قالت "للرياضيين المحترفين"، قالت "افعلها"،
رسالة تصل للجميع: الطالب، الموظف، الأم، العامل، الرياضي.
وهون سر الخلود الإعلاني: الشمول، لا التخصيص الطبقي.
كيف نفقد الإنسانية في التسويق
كل مرة نستخدم فيها لقبًا كمفتاح دعائي، بنكرّس فكرة إن القيمة مرتبطة بالمكانة لا بالإنسانية.
بنعلّم الناس — من غير قصد — إن الاحترام يُكتسب بلقب، لا بتصرف.
وهذا أخطر من مجرد خطأ إعلاني، لأنه ينعكس على الثقافة كلها.
الأطفال بيصيروا يحلموا باللقب لا بالشغف.
الطلاب بيدرسوا ليصيروا "دكتور" لا ليصيروا مفيدين.
والموظفون بيسعوا للترقية مش حبًا في الإنجاز، بل رغبة في "الهيبة".
وهكذا نخلق جيلاً يسعى وراء العنوان لا وراء القيمة.
جوهر المشكلة: التسويق سطّح الإنسان
في الماضي، كان التسويق يهدف لفهم النفس البشرية — دوافعها، رغباتها، مشاعرها.
اليوم، صار كتير من المسوقين يحلّلون البيانات ويغفلون المعنى.
بيجمعوا ملايين الأرقام عن "المهنة، الدخل، العمر"، لكنهم ما بيعرفوا شيئًا عن الإنسان اللي وراءها.
تحليل البيانات صار أهم من تحليل الشعور.
وهيك صار الإعلان يقول:
"نستهدف الأطباء لأن عندهم دخل أعلى".
بس ما يسأل: "هل فعلاً عندهم وقت أو طاقة أو ثقة بهذا المنتج؟"
النتيجة؟ حملات باردة، جميلة شكلاً، فارغة روحاً.
التسويق الحقيقي يبدأ من الفهم
التسويق الناجح ما بيبدأ من المسمّى الوظيفي،
بل من الفهم العميق للإنسان اللي وراءه.
الطبيب، المهندس، السائق، المدرس… كلهم بشر عندهم هموم مالية، وطموحات، وضغوطات، وأحلام.
كلهم بدهم راحة بال، واستقرار، وتقدير.
لو فهمت هاي النقطة، أنت مش بس بتسوّق منتج — أنت بتبني علاقة.
وبالعلاقات تُخلق الولاءات، مش بالإعلانات المكررة.
كيف تبني حملة إنسانية بدل حملة طبقية
-
ابدأ من الاحتياج لا اللقب:
اسأل نفسك: شو المشكلة اللي بحلها المنتج؟ مش لمين اللقب اللي بحملها. -
استخدم لغة الشعور لا لغة التمييز:
بدل ما تقول "للمديرين"، قل "للي بتحب تسيطر على وقتك". -
خاطب بالاحترام، مو بالهيبة:
كل إنسان بيستحق خطابًا كريمًا. لا ترفع فئة على حساب الثانية. -
قدّم صورة شمولية:
خلّ الناس تشوف نفسها في الإعلان، مش تشوف غيرها. -
ابنِ رمزية مشتركة:
زي ما عملت Apple وNike، استخدم رموزًا تمسّ الكل، مش فئة واحدة.
المعادلة الجديدة للتسويق
التسويق الحقيقي = فهم الإنسان × تقديم قيمة × احترام الشعور
مو مجرد جمع بيانات + لقب أنيق + موسيقى خلفية مؤثرة.
الناس اليوم أذكى من إنك تخدعها بالهيبة.
المستهلك الحديث بيدور على الصدق، مش على المظاهر.
ولما يحس إن الرسالة فعلاً موجهة له، بصير جزء من البراند مش زبون مؤقت.
إعادة تعريف النجاح التسويقي
النجاح التسويقي مش عدد المشاهدات ولا الترندات،
النجاح هو لما تحس إن إعلانك لمَس قلب إنسان بسيط وشعر إنك فهمته.
هو لما العامل يقول "هاي الشركة بتحكي بلغتي"،
والطالب يقول "الرسالة وصلتني"،
والأم تقول "الإعلان بيشبهني".
هون فقط يصير الإعلان إنسانيًا بحق.
الخلاصة
المسمّى الوظيفي ما عمره كان دليل تميّز.
التميّز الحقيقي هو في السلوك، في الفهم، في الاحترام، في العطاء.
والمسوق الذكي هو اللي يشوف وراء الألقاب إنسانًا حقيقيًا — تعب، واشتغل، وحلم.
الإعلان اللي بيقول "أنت طبيب" ممكن يحقق مشاهدات،
لكن الإعلان اللي بيقول "أنت إنسان بتتعب وتستحق راحة بال" بيكسب قلوب.
الفرق بسيط في الكلمات، لكنه عميق في الأثر.
الأول بيبيع منتج، الثاني بيبني معنى.
والتسويق الحقيقي… ما هو إلا فن مخاطبة الإنسان نفسه،
لأن في النهاية — حتى لو بتبيع لشركة — اللي بيقرر يشتري هو شخص.
شخص عنده قلب، إحساس، وتعب.
التسويق العظيم هو اللي يحترم هالشي،
ويتعامل مع الناس مش كألقاب… بل كبشر.
جملتي الختامية:
التسويق مش فن بيع منتجات، بل فن فهم الإنسان.
واللي بيبدأ من اللقب… رح يضل يخاطب لقب.
أما اللي بيبدأ من الإنسان، فهو اللي فعلاً بيكسب القلوب.