الموضوع اللي بنحكي عنه اليوم مش تفصيل صغير… هو لبنة أساسية في بناء أي مجتمع حقيقي بدو يتقدم ويعيش نهضة مهنية واقتصادية حقيقية. موضوع تدريب الخريجين الجدد والأشخاص الجداد بالمهنة، هو قضية إنسانية، اجتماعية، اقتصادية، وحتى وطنية. يمكن اليوم أغلبنا لاحظ إنو هاي المسؤولية بلشت تختفي تدريجيًا من مشهد سوق العمل العربي، كأنها صارت رفاهية مش واجب، وكأن الشركات صارت تنظر للمتدرب كعبء مش فرصة.
اللي لازم نرجع نعيد فهمه تمامًا إنو تدريب الفريش مش خسارة، بالعكس، هو أعظم استثمار ممكن تعملو أي شركة عندها رؤية حقيقية للمستقبل. خلينا نحكي بصراحة، اليوم الشركات اللي ما عندها استعداد تدرب وتبني كوادر من الصفر، بكرا راح تضلها تركض ورا الكفاءات النادرة، وتدفع أضعاف، أو تكتشف إنها محاطة بموظفين بدون عمق مهني ولا ولاء ولا انتماء.
غياب ثقافة التدريب … أزمة صامتة في السوق
المجتمع العربي، للأسف، صار يتعامل مع التدريب كأنه “مِنّة” من المؤسسة على المتدرب، مش واجب وطني ومهني. صار التدريب مجرد ورقة، شهادة، أو متطلب لتوقيع عقد، مش عملية حقيقية لصناعة إنسان مهني قادر ينتج.
نشوف اليوم شباب وشابات خرجوا من الجامعة بآمال كبيرة، عندهم طاقة، عندهم استعداد يتعلموا، لكن أول باب يطرقوه يكون الجواب: “بدنا حدا عنده خبرة”، طب كيف بده يصير عنده خبرة إذا ولا حدا مستعد يعطيه فرصة؟
وبصراحة، الغياب الأكبر هو غياب النية الحقيقية للتأهيل. الشركات بتخاف من “هدر الوقت” بتعليم المتدربين، وما بتفكر إنو هذا الوقت نفسه هو اللي راح يصنع لها جيل من الموظفين المخلصين، المتقنين، اللي فاهمين شغلهم ومؤمنين فيه.
التدريب مش عمل خيري… التدريب استثمار استراتيجي
الفكرة الأساسية اللي لازم تنزرع بعقول أصحاب الشركات ومديري الموارد البشرية إنو تدريب الأشخاص الجدد مش تفضل، ولا صدقة، ولا عبء، هو استثمار طويل المدى.
لما تدرب شخص اليوم، أنت بتصنع موظف راح يخدمك بعد سنة أو سنتين بثقة وخبرة، وراح يرفع جودة عملك، وراح يكون عنده انتماء للمكان اللي أعطاه فرصته الأولى.
الشركات الذكية ما بتخاف من الفريش، بالعكس، هي اللي بتخلقهم وتستثمر فيهم وبتعلمهم حسب ثقافتها وقيمها، بدل ما تجيب شخص جاهز من شركة ثانية ويحمل معه أسلوب شغل مختلف أو فكر غريب.
المشكلة الأخطر: من التجاهل إلى الاستغلال
للأسف، القصة ما وقفت عند تجاهل التدريب، صارت القصة أسوأ لما تحول التجاهل لاستغلال.
صرنا نشوف حالات واقعية لمتدربين بيشتغلوا 8 ساعات أو أكثر، بمسؤوليات ضخمة، دون أي مقابل مادي أو حتى إشراف حقيقي.
صار التدريب يعني “شغل مجاني”، بدل ما يكون “تعليم موجه”.
في شباب بيشتغلوا أشهر طويلة في شركات على أمل “يمكن بعدين يثبتوني”، وبالنهاية بيكتشفوا إنهم كانوا مجرد تعب مجاني، والمكان نفسه يكرر الدورة مع غيرهم بعدين.
والأدهى من هيك، صرنا نسمع عن شركات بتطلب مبالغ مالية مقابل التوظيف أو التدريب! كأنها معهد تجاري مش مؤسسة مهنية، بتتعامل مع الخريج كزبون، مش كإنسان جاي يبدأ حياته.
وين العدالة؟ وين الرقابة؟ وين ضمير الإدارات اللي المفروض تكون قدوة؟
غياب المسؤولية المجتمعية = انحدار مهني قادم
لو بدنا نحكيها بصراحة، إذا ضلت الشركات تتعامل مع المتدربين بمنطق “ما النا مصلحة”، فإحنا بعد عشر سنين راح نعيش فجوة مرعبة في السوق.
راح نلاقي قلة قليلة من الكفاءات اللي بتفرض شروطها، وأغلبية ضايعة ما عندها لا مهارة ولا فرصة، والنتيجة؟ سوق مش متوازن.
واحد بيشتغل بـ 100 دينار لأنه بده يكوّن خبرة بأي ثمن، وآخر رافض 2000 دينار لأنه نادر ومطلوب.
والشركة اللي بتدور على كفاءة متوسطة بالسعر المعقول؟ مش راح تلاقي.
التوازن بين العرض والطلب بالكفاءات ما بصير بالصدفة، بصير لما الكل يتحمل مسؤوليته. لما كل مؤسسة تعتبر حالها جزء من منظومة تطوير المجتمع، مش مجرد كيان ربحي.
“التدريب” هو أساس الاقتصاد
خلينا نطلع على الدول اللي سبقتنا. كل دولة بنت اقتصادها الحقيقي استثمرت أولاً في رأس المال البشري.
اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ما كانت تملك موارد، لكن كانت تملك فلسفة اسمها “التعلم من العمل”، فصار الموظف يشتغل ويتعلم بنفس الوقت.
كوريا الجنوبية حولت شبابها لخبراء خلال جيل واحد لأنها احترمت المتدرب، وخلقت نظام تعلم عملي داخل المؤسسات.
بينما إحنا في العالم العربي، أغلب الشركات لليوم بتتعامل مع المتدرب كموظف درجة ثانية، أو عبء لازم نتخلص منه بأسرع وقت.
لما نصنع الخبرة بدل ما نشتريها
لما شركة تبدأ تصنع موظف من الصفر، هي فعليًا عم تبني هوية خاصة فيها.
الموظف اللي تعلم بإيدك بيحمل قيمك، أسلوبك، طريقتك، بيصير امتدادك.
بينما الموظف اللي اجا جاهز، بيظل غريب بثقافته المهنية، وممكن يترك بأي لحظة إذا شاف عرض أعلى.
وهون الفرق بين الشركات اللي “تبني مستقبل” والشركات اللي “تستهلك حاضر”.
شو يعني مسؤولية مجتمعية فعلاً؟
المسؤولية المجتمعية مش بس نشاط ترفيهي ولا صورة على السوشال ميديا مع أطفال يتامى.
المسؤولية الحقيقية تبدأ من جوّا المؤسسة:
لما تفتح باب تدريب فعلي للشباب،
لما تخلق برامج mentoring ومرافقة مهنية،
لما تجهز بيئة تعليمية وتقييم موضوعي،
ولما تعتبر الفريش مو عبء بل استثمار إنساني.
المسؤولية المجتمعية هي إنك تفكر بالمستقبل مش بالمصروف الشهري.
الاقتصاد ما بينهض إلا لما ينهض الناس
اقتصاد البلد ما بيمشي بالضرائب ولا بالقوانين، بيمشي لما الناس تشتغل وتتعلم وتنتج.
كل شاب اليوم مش قادر يلاقي فرصة تدريب، هو خسارة على المدى البعيد.
وكل مؤسسة قررت تختصر الطريق وتستغل المتدربين بدل ما تبنيهم، هي فعليًا بتخرب سوقها بإيدها.
لما الموظف يتدرب صح، بيصير عنده وعي، كفاءة، احترام، بيعرف قيمته وبيقدّر شغله.
أما لما يواجه من أول تجربة ظلم واستغلال، فهو بيكبر وفي داخله عقدة: إن الشغل يعني تعب بلا تقدير، وإن النجاح لازم يجي من واسطة مش من كفاءة.
هاي الفكرة لحالها كفيلة تدمّر أي بيئة مهنية مستقبلًا.
كيف نصنع جيل مهني حقيقي
اللي بيصنع نهضة الأمم مش الأبراج العالية ولا الشركات الضخمة، اللي بيصنعها هو الإنسان، الإنسان اللي قدرته على الإبداع ما بتجي من فراغ، بتجي من تعليم، تدريب، تمكين، وثقة. لما نحكي عن تدريب الخريجين الجدد، إحنا فعلياً عم نحكي عن تأسيس وعي مهني جديد، عن فتح الباب لجيل يفهم قيمة العمل مش بس كوسيلة رزق، بل كمسؤولية ومكانة.
المرحلة اللي لازم نمر فيها اليوم مش مرحلة “نحاول ندرّب”، بل مرحلة “نبني نظام تدريب”. لأن التجارب العشوائية ما بتنتج جيل محترف، ولا بتخلق استمرارية. كل مؤسسة بدها تفكر جدياً، كيف تحول التدريب من مبادرة وقتية إلى جزء أساسي من دورة حياتها الإدارية والإنتاجية.
نموذج المؤسسة الذكية: كيف تبني منظومة تدريب ناجحة
1. البداية من الثقافة مش من القوانين
أول وأهم نقطة: التدريب ما لازم يكون “بند” بالسياسة الداخلية للمؤسسة، لازم يكون “قناعة” مترسخة عند الإدارة العليا.
يعني ما يكون الهدف “نملأ شواغر التدريب” بس، بل “نخلق كفاءات حقيقية”.
الفرق كبير بين شركة بتحط المتدرب يعمل مهمات بلا هدف، وشركة بتحط خطة تعلم فيها مراحل واضحة:
-
أسبوع تعارف على بيئة العمل.
-
أسبوع متابعة مباشرة مع موظف خبير.
-
أسبوع تقييم أولي مع feedback بنّاء.
-
ثم الانتقال التدريجي لمسؤوليات أكبر.
اللي بصير أغلب الأحيان إن المتدرب يجي بيومه الأول ما حدا يستقبله، ما حدا يشرحله شو دوره، وبعد أسبوع بصيروا يلوموه إنو “مش عارف يشتغل”!
هون من الأساس صار الخطأ الإداري مش منه، من المؤسسة نفسها.
2. تدريب على المهارة والسلوك معاً
كتير شركات بتركّز فقط على الجانب الفني: “تعلمه كيف يستخدم البرنامج، كيف يكتب التقرير، كيف يتعامل مع العميل…”، وبتنسى الجانب السلوكي: الالتزام، احترام الوقت، ثقافة الفريق، طريقة التواصل.
لكن الحقيقة؟ السلوك هو اللي بيحدد استمرارية الشخص ونجاحه، مش المهارة فقط.
لذلك الشركات اللي بدها تبني موظف ناجح لازم تمزج التدريب المهني بالسلوكي.
المدير أو المشرف اللي بيشرح للمتدرب كيف يحترم المواعيد وكيف يتعامل باحتراف، هو فعلياً بيصنع قائد للمستقبل.
3. “الموجه” أو الـ Mentor … العنصر المنسي
الـ mentor هو الشخص اللي بيكون مسؤول عن توجيه المتدرب خطوة بخطوة، مش بس يعطيه مهام.
هو اللي بيشرح له “ليش بنعمل هيك؟” مش بس “اعمل هيك”.
هذا العنصر مفقود تقريباً في أغلب المؤسسات العربية، رغم إنه من أقوى عناصر صناعة الكفاءات.
في الشركات الكبرى بالعالم مثل Google وMicrosoft، كل متدرب جديد بيكون له “buddy” أو “mentor” مرافق إله طول فترة التدريب. بيشاركه المعرفة، بيجاوبه على أسئلته، وبيساعده يكتشف نقاط قوته وضعفه.
هيك بيصير المتدرب جزء من الفريق بسرعة، بدل ما يحس إنه دخيل.
4. التقييم المستمر مش المفاجئ
كثير مؤسسات بتستنى نهاية التدريب لتقييم المتدرب، وهذا خطأ كبير.
المتدرب لازم يعرف كل فترة كيف أداءه، شو نقاط التحسين، وشو التقدم اللي عمله.
الـ feedback المنتظم مش رفاهية، هو وقود التطور.
كل جملة “كويس بس بدك تشتغل على كذا” بتخلق فرق كبير.
بينما الصمت أو الإهمال بيكسر الحماس، وبيخلي المتدرب يشتغل بعشوائية أو بخوف.
5. اجعل التدريب قيمة، مش عبء
المتدرب مش ضيف مؤقت… هو مشروع طويل المدى.
ولما المؤسسة تعتبر التدريب قيمة، راح ينعكس على كل تفاصيلها:
-
بيئة العمل بتصير داعمة أكثر.
-
الموظفين القدامى بصير عندهم حس مسؤولية وتعليم.
-
صورة المؤسسة قدام السوق بتصير راقية، لأن الناس بتشوفها تصنع مهنيين حقيقيين.
وحتى اقتصادياً، الاستثمار في تدريب المتدربين الجدد أرخص بكثير من محاولة توظيف كفاءات جاهزة.
لأن الجاهز بده راتب عالي، لكن المتدرب اللي دربته بنفسك بده فرصة فقط… وفرصتك هاي بتصنع ولاء.
نماذج من الواقع
خلينا نحكي عن أمثلة من العالم العربي والعالمي:
في الأردن وبعض دول الخليج
فيه مؤسسات بلشت تعتمد برامج تدريب داخلية حقيقية، مثل بعض البنوك اللي بتعمل “Graduate Programs” سنوية، بتختار خريجين جدد وبتأهلهم لمدة سنة كاملة في مجالاتهم.
المؤسسة بتدفع رواتب رمزية، لكن بالمقابل بتخلق جيل كامل من الكفاءات اللي ممكن تترقى لاحقًا داخلها.
في اليابان
كل موظف جديد بيمر بسنة كاملة من “On-the-job training” مع إشراف مباشر من زملاء أقدم، والهدف مش فقط تعليمه الشغل، بل نقله من طالب لشخص مهني كامل.
وهذا السبب إن اليابان معروفة بثقافة الإتقان والتفاني.
في ألمانيا
فيه نظام اسمه “Ausbildung”، تدريب مهني رسمي بيجمع بين التعليم العملي والنظري، وبتتحمل الشركات جزء من التكلفة كواجب مجتمعي، مش كمساعدة.
لأنهم فاهمين إن بناء السوق مسؤولية جماعية، مش تنافسية.
لما التدريب يتحول لعدالة اجتماعية
لما تدرّب شاب أو بنت جديدين، إنت مش بس عم تصنع موظف، إنت عم تمنع بطالة، عم ترفع مستوى الوعي، وعم تخفف من الهجرة اللي بتخلي شبابنا يطلعوا يدوروا على فرص برا.
اللي بيصير اليوم إن الخريج الجديد يواجه سوق عمل قاسي، شركات تطلب 3 سنين خبرة، ورؤساء أقسام مش مستعدين يعلّموا لأنه “ما عندي وقت”.
لكن لما نخلق منظومة تدريب منظمة، الكل بيستفيد:
-
المتدرب بيكسب مهارة.
-
المؤسسة بتكسب ولاء وكفاءة.
-
السوق بيكسب توازن.
من تدريب للأفراد إلى تدريب للمجتمع
التدريب مش بس مهمة للشركات، لازم يتحول لفكر وطني متكامل.
الحكومة، الجامعات، القطاع الخاص… الكل لازم يشتغل ضمن خطة واحدة:
-
الجامعات تركز على التعليم العملي مش النظري فقط.
-
الشركات توفر فرص تدريب حقيقية مش شكلية.
-
الدولة تشجع وتحفز المؤسسات اللي تستثمر بالتدريب (منح، إعفاءات، تسهيلات).
هاي المنظومة إذا اشتغلت، راح تبني جيل يعرف يشتغل، يعرف يبدع، يعرف يقود.
الخطأ القاتل: تدريب بلا هدف
فيه شركات بتحاول “تعمل حالها بتدرب” لمجرد الصورة، بتجيب متدربين بدون خطة ولا توجيه، وبتنتهي التجربة بلا أي قيمة.
هذا النوع من التدريب أخطر من غيابه، لأنه بخلق إحباط ويأس عند الشباب.
المتدرب لازم يطلع من التجربة بشيء حقيقي:
-
مهارة جديدة.
-
مشروع أنجزه.
-
ثقة بنفسه.
-
تجربة حقيقية ممكن يذكرها بسيرته الذاتية.
تدريب حقيقي = اقتصاد مستدام
الاقتصاد مش بس أرقام، هو نتاج الناس اللي تشتغل.
كل متدرب اليوم بيتعلم صح، هو موظف منتج بكرا،
وكل مؤسسة بتحتضن الفريش، هي شركة ناجحة بعد سنين.
أما المؤسسات اللي بتستغل أو تستهين، فحتى لو كبرت مؤقتًا، مصيرها تنهار، لأنها فقدت العنصر الأهم: الإنسان.
كلمة أخيرة
تدريب الخريجين مش واجب إداري، هو وعد للأجيال القادمة.
كل شركة اليوم لازم تسأل حالها:
هل إحنا جزء من الحل؟ ولا من سبب ضياع الكفاءات؟
وكل مدير لازم يتذكر:
اللي علمك أول مرة، ما كان مضطر، لكنه آمن فيك.
فدَورك اليوم ترد الجميل لغيرك، وتفتح الباب للي بعدك.
المسؤولية المجتمعية الحقيقية مش في التبرعات… بل في إنك تصنع إنسان قادر يعيش بكرامة، يعرف يشتغل، ويصنع قيمة.
لأن اللي ما يزرع في الأجيال الجديدة، راح يحصد فراغاً في المستقبل.
والفراغ المهني، هو أخطر خسارة ممكن تصيب أي بلد.