في حياة العمل والسعي، لا يوجد شعور أكثر تناقضًا من ذاك الذي يجتاحك عندما ترى زميلًا أو صديقًا ينال ما كنت تتمناه لنفسك. فرصة جديدة، ترقية، قبول في شركة كبيرة، أو حتى مجرد إشادة من الإدارة كنت تنتظرها أنت منذ زمن. في تلك اللحظة يتصارع في داخلك الإعجاب والغيرة، الفرح والحسرة، الرضا والاعتراض. وربما يهمس في داخلك صوت يقول: “وليش هو؟ أنا أحقّ.”
لكن هنا يأتي الامتحان الحقيقي للقلب، اختبار الإيمان لا في المساجد فقط، بل في تفاصيل الحياة اليومية، في لحظات التفاوت والرزق. تلك اللحظات التي تذكّرك بأن الحياة ليست سباقًا على الموارد، بل ساحة امتحان للنية، ولليقين، وللثقة بقدر الله.
عندما ترى أحدهم ينجح، قل لنفسك بصدق وهدوء: "ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ". لا تقولها على سبيل التبرير أو القهر، بل كتسليم حقيقي بأن الفضل لا يُوزَّع على حسب المقاييس البشرية. ربما أنت أذكى منه، وربما أكثر التزامًا، لكن الله وحده يعلم أين يكون الخير لكلٍّ منكما.
التوفيق ليس معادلة حسابية
كثيرون يظنون أن النجاح نتيجة مباشرة للجهد، وكأن الكون آلة دقيقة لا تعرف سوى قوانين المنطق. لكن الواقع أعقد من ذلك بكثير. هناك من يعمل بجدّ لسنوات، ولا تأتيه الفرصة التي يستحقها، وهناك من تأتيه على طبقٍ من ذهب دون كثير سعي. هنا ليس الظلم هو الحاكم، بل الحكمة. لأن الله، كما قال: "كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ"، يعطي كلاً بما يناسب طريقه وامتحانه.
ربّ عملٍ ظنّ الناس أنه نجاح، وهو في باطنه فتنة. وربّ تأخيرٍ في رزقٍ كان هو عين الرحمة. لذلك، حين تتأمل المشهد من بعيد، ستكتشف أن التوفيق ليس دائمًا فيما يظهر.
حين تضيع منك الفرصة
تأتي لحظات نشعر فيها أن العالم ضاق. رسالة رفض بعد مقابلة، مشروع لم يُقبل، منحة راحت لشخصٍ آخر، أو حتى وعد لم يتحقق. وفي كل مرة، يحاول العقل تفسير ما حدث، بينما القلب يغلي. في تلك اللحظة، تعلّم أن تقول: "عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا".
قد لا تفهم اليوم كيف يكون هذا الخير، لكنه يأتي في الوقت الذي تكون فيه مستعدًا له. ربما لو حصلت على تلك الوظيفة، لكان ضغطها النفسي دمّر توازنك. وربما لو نجحت في ذاك المشروع، لأصبحت أسير طموحٍ أعمى. الله يُبدلك حين يرى أنك تستحق الأفضل، لا حين تظن أنك جاهز له.
وكم من “خسارة” ظنّها الناس نقمة، فإذا بها بداية حياةٍ جديدة. وكم من “فرصة ضاعت” كانت حماية من طريقٍ مظلم.
الغيرة المهنية: الوجه الآخر للإنسان
من الطبيعي أن تشعر بالغيرة، فالغيرة ليست خطيئة بحدّ ذاتها. هي شعور إنساني فطري، لكن ما يحدد قيمتها هو كيف تتعامل معها.
هل تحوّلها إلى دافع؟ أم إلى حسد؟
الغيرة التي تُترجم إلى جهد إضافي هي وقود النجاح. أما تلك التي تتحول إلى سخط وسخرية واتهام، فهي نارٌ تحرق صاحبها قبل غيره. في بيئات العمل الحديثة، هذه الغيرة الخفية تُدمّر الفرق قبل أن تدمّر الأفراد. موظف لا يحتمل أن يُشاد بزميله، أو مديرة تشعر بالتهديد من نجاح موظفتها. كلها صور يومية لعدم الإيمان بأن “الرزق لا يُزاحَم.”
الإيمان الحقيقي أن تكون قادرًا على قول “مبروك” من قلبك، لا من شفتيك فقط.
سرّ التوفيق
التوفيق لا يقاس بما تنجزه، بل بما يباركه الله في عملك. قد تعمل عشر ساعات يوميًا ولا ترى ثمرة واحدة، بينما غيرك ينجز في ساعة ما يعجز غيره عن تحقيقه في شهور. لأن في عمله “بركة”، والبركة لا تُشترى ولا تُكتسب بالذكاء وحده.
قال أحد الحكماء:
“التوفيق أن تعمل الصواب في الوقت الصواب بالطريقة الصواب.”
وهذا لا يتحقق إلا لمن صَفَا قلبه من الغِلّ. لأن الله لا يبارك في قلبٍ يحمل حقدًا على خلقه.
التفاوت سنة كونية
حين تفهم أن الاختلاف بين الناس ليس ظلمًا بل تنوّعًا في الابتلاء، سيهدأ قلبك. الغني مبتلى بماله كما الفقير بفقره. والمدير ممتحن بسلطته كما الموظف بصبره.
لو جعل الله الناس في درجة واحدة من الرزق، لتوقفت حركة الحياة. من سيخدم؟ من سيتعلّم؟ من سيقدّم؟ قال تعالى: “نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا.”
التفاوت لا يعني الأفضلية المطلقة، بل توزيع للأدوار، كلٌّ يؤدي ما خُلق له. ولذلك، حين ترى زميلك يُرزق، تذكّر أنك أيضًا تُرزق بطريقة مختلفة، ربما في راحة بالك، أو في حبّ الناس لك، أو في وقتٍ أطول مع عائلتك.
الفرح للآخرين لا ينقص منك
واحدة من أعظم علامات نضج الروح أن تفرح لنجاح الآخرين كما تفرح لنفسك. لأنك حين تفعل، تُرسل رسالة للكون أنك مستحقٌّ بدورك للفرح. لا يوجد شيء اسمه “فرص محدودة”، ولا رزق يُسحب منك لأن غيرك حصل عليه.
التفكير بعقلية “الندرة” يجعلك دائم التوتر. بينما من يؤمن بأن الفضل الإلهي واسع، يعيش في سلام. فالله لا يُوزّع بميزان البشر، بل بميزان الرحمة والعلم والوقت المناسب.
ما بعد التوفيق: شكر ووعي
النجاح ليس نهاية الطريق، بل بداية اختبارٍ جديد. كم من شخص أفسده النجاح لأنه ظن أنه حصده بجهده وحده. وكم من آخر تواضع بعد النجاح فزاده الله رفعة.
حين تُرزق، لا تنس أن تقول من أعماقك: “هذا من فضل ربي.” لأن النعمة إن لم تُقابل بشكر، سُحبت. وإن شُكرت، زادت. الشكر لا يكون بالكلمات فقط، بل بالتصرفات: أن تفتح الباب لغيرك، أن تساعد زميلك الجديد، أن تكون سببًا في توفيق غيرك.
الشكر الحقيقي هو أن تتحول من طالب فضلٍ إلى مانح فضل.
الإيمان بالزمن والقدر
كل شخص له توقيت مختلف. لا يوجد متأخر، ولا سابق. أنت في رحلتك الخاصة. ما زلت تتعلم دروسًا لا يراها أحد، وربما لو حصلت على ما تريد الآن، لانهارت نفسك تحت الحمل.
الإيمان بالقدر يعني أن تثق أن كل تأخير لحكمة، وكل حرمان لحماية، وكل منحة تأتي في موعدها. ربما بعد سنة، أو بعد عقد، لكن عندما تأتي، ستفهم لماذا تأخرَت.
كما قال ابن القيم:
“لو كشف الله لك الغيب لاخترت الواقع.”
فما تظنه تأخيرًا اليوم، قد يكون أعظم لطفٍ إلهي غدًا.
تربية النفس على التوازن الداخلي
من أصعب ما يواجه الإنسان في بيئة العمل الحديثة هو المقارنة المستمرة. تطبيقات التواصل زادت الطين بلّة، إذ نرى إنجازات الآخرين لحظة بلحظة. صور، شهادات، احتفالات، وظائف جديدة. نعيش وسط طوفان من “نجاحات الآخرين”، فيبدو لنا أننا الوحيدون العالقون في أماكننا.
لكن لو دقّقت قليلًا، ستدرك أن لكل شخص مشهده الخاص خلف الكواليس. من يظهر لك ابتسامته، لا تراه في لحظات ضعفه. ومن يحتفل اليوم، ربما بكى بالأمس. التوازن النفسي يعني أن تُدرك أن المقارنة ظالمة، لأنك لا ترى الصورة الكاملة.
دروس من الواقع
كم من شخص ظن أن الحياة خذلته، فإذا بها تُمهّده لما هو أعظم.
– موظف لم يُقبل في شركة أحلامه، فبدأ مشروعه الخاص ونجح.
– طالبة لم تُقبل في المنحة التي أرادتها، فدرست في مكان آخر ووجدت نفسها.
– شخص خسر عمله فتعلم مهارة جديدة غيرت مستقبله.
كل تلك القصص تكرار لمعنى “عسى ربنا أن يبدلنا خيرًا منها”. ليست آية للتسلية، بل وعدٌ واقعي لمن يصبر ويؤمن.
التواضع وقت النجاح والرضا وقت الفشل
الاختبار الحقيقي ليس فقط في الخسارة، بل في الفوز أيضًا. لأن النجاح قد يُغري بالغرور، كما أن الفشل قد يُغري باليأس.
التواضع لا يعني أن تقلل من نفسك، بل أن تدرك أن كل ما عندك هبة مؤقتة. قد تُسحب في أي لحظة. أما الرضا، فهو ألا تلعن الواقع لأنك لم تصل بعد، بل أن تستمر في السعي بروح مطمئنة.
ختامًا:
الحياة لا تقاس بالترقيات ولا بالألقاب، بل بصفاء القلب وسلام النية. النجاح الحقيقي هو أن ترى غيرك ينجح ولا يتغير وجهك، أن تُبارك له من قلبك، أن تؤمن أن الخير الواصل إليه لا يمنع الخير القادم إليك.
في النهاية، لا أحد يأخذ رزق أحد.
الله وحده يوزّع الأرزاق كما يوزّع الهواء: يكفي الجميع، لكنه لا يُرى.
فكلما رأيت من توفّق من حولك، تذكّر:
ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ.
عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا.
كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ.
وما بين هذه الآيات، يعيش المؤمن مطمئنًّا، يزرع، يسعى، ويبتسم في وجه القدر.